العربية

التضمين المالي ومكافحة الفقر من منظور إسلامي نظرة عجلى إلى فلسفة الماعون المحمدية

التضمين المالي ومكافحة الفقر من منظور إسلامي
نظرة عجلى إلى فلسفة الماعون المحمدية

بقلم: الأستاذ الدكتور الحاج شمس الأنوار م.أ

أ- لمحة سريعة عن منظمة “محمدية

تعتبر جمعية ”محمدية“ أقدم الجمعيات الاجتماعية الموجودة في إندونيسيا حاليا، ومن أوسعها انتشارا وأكبرها فاعلية ونشاطا. أسسها بمدينة جوكجاكرتا الشيخ أحمد دحلان في 8 ذي الحجة 1330 للهجرة الموافق لـ 18 توفمبر 1912 للميلاد، ويكون مقره الرئيسي مدينة جوكجاكرتا وهي أهم المدن في جنوب جزيرة جاوا. عرَّفت “محمدية” نفسها بأنها “حركة إسلامية دعوية تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتجديد، استهداء بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كما تجعل الدين الإسلامي أساسا لها [المادة 1، 2، 3 من نظامها الأساسي]. ويكون هدفها إقامة الدين الإسلامي وإعلاء كلمته من أجل تجسيد وجود مجتمع إسلامي حقيقي [المادة 6 من نظامها الأساسي].

كان مؤسسها الشيخ أحمد دحلان أحد موظفي القصر في سلطنة جوكجاكرتا وتولى منصب ”Penghulu“ أي ”النقيب“ والذي كان مسؤولا عن الشؤون الدينية الإسلامية في السلطنة وبصفة خاصة كان خطيبا (إماما) في جامع السلطنة. ولد عام 1285 هـ (1868 م) وتلقى تعليمه الأوَّلي على يد والده الشيخ أبو بكر بن الشيخ محمد سليمان وبعض العلماء الموجودين في جوكجاكرتا حينذاك، وفي عام 1883 وهو بعدُ في الخامسة عشرة من عمره سافر إلى مكة وقضى فيها خمس سنوات طالبا للعلوم الدينية من منبعها الأصلي ثم عاد إلى مسقط رأسه. وبعد عودته إلى إندونيسيا بدأ ينشر أفكاره التجديدية إلى جانب مواصلة دروسه على أيدي بعض العلماء في جاوا. وفي 1902 م سافر إلى مكة لمرة ثانية وأقام فيها هذه المرة سنتين مواصلا لدراسته وطلبه للعلم. وبعد أن رجع إلى بلده قام بالدعوة الإسلامية بشكل مكثف وأسس جمعية ”محمدية“. توفي الشيخ عام 1340 م (1923 م) بعد أن أفنى حقبة مباركة من عمره في خدمة الدين والمجتمع. وفي عام 1961 أصدر رئيس جمهورية إندونيسيا سوكارنو قرارا بمنحه لقب ”بطل الاستقلال القومي“.

تعمل ”محمدية“ على نشر الدعوة الإسلامية في ربوع إندونيسيا عن طريق تطوير البرامج الحيوية لتجديد المجتمع الإندونيسي والتي تغطي جميع مجالات الحياة تقريبا. ومن أهمها مجال التعليم، ومجال الصحة، ومجال الخدمات الاجتماعية كإيواء الأيتام ومساعدة الفقراء والمساكين، ومجال تمكين المجتمع، ومجال الاقتصاديات، ومجال تخفيف مخاطر الكوارث، ومجال البيئة، ومجال القانون وحقوق الإنسان، ومجال البحوث الإسلامية، ومجال نشر الوعي الديني، وما إلى ذلك. وأنشئ لكل من هذه المجالات قسم (ويعرف عند ”محمدية“ بمجلس) خاص مسؤول عن تقرير البرامج وتنفيذ النشاطات والأعمال ذات الصلة. فمثلا لمجال التعليم أنشئ مجلسان أولهما مجلس التعليم الابتدائي والثانوي، وثانيهما مجلس التعليم العالي والبحث العلمي. ومن الجدير بالذكر أن ”محمدية“ تدير الآن في رحابها مائة وسبعين من المعاهد العليا من جامعات وأكاديميات وكليات جامعية ومدارس عالية (والجامعة المحمدية بجوكجاكرتا التي نحن فيها اليوم إحداها)، كما تدير الألوف المؤلفة من المدارس الابتدائية والثانوية إلى جانب بساتين الأطفال.

ومما يجدر أيضا بالذكر مجلس الترجيح والتجديد، وهو قسم في الجمعية مسؤول عن البحوث الدينية الإسلامية، ويعتبر من أهم الأقسام، فمن وظائفه القيام بالبحث في التعاليم الإسلامية للحصول على أصالتها، وتقديم التوجيهات واللإرشادات لأعضاء الجمعية بصفة خاصة وللمجتمع بصفة عامة، وكذلك تنشئة كوادر العلماء، وإصدار الفتاوى. لقد صدرت وطبعت حتى الأن من فتاوى هذا المجلس سبعة مجلدات (باللغة الإندونيسية) تغطي مختلف جوانب الحياة إلا أن أكثرها يتعلق بأمور العبادات.

وللترجيح في ”محمدية“ ثلاثة أنواع من المنتوجات، وهي أولا: ما يسمي بالقرارات وهي مجموعة الأحكام والقواعد الشرعية التي يتم تقريرها والاتفاق عليها في اجتماع للترجيح يحضره أعضاء الترجيح، وهذه القرارات تلزم ”محمدية“ جمعية وعضوا ولا يجوز مخالفتها في البرامج والنشاطات التي تجريها الجمعية وأعضاؤها، وهي تمثل موقفا رسميا لمنظمة ”محمدية“ في المسائل الدينية. وثانيا ما يسمى بالفتاوى وهي بيانات للأحكام الشرعية في الوقائع التي يسأل عنها سائل ويصدرها أعضاء مجلس الإدارة لمجلس الترجيح والتجديد وهي كغيرها من الفتاوى، ليس لها القوة الإلزامية الصارمة كما للقرارات، ومع ذلك فإنها على كل حال تمثل موقف ”محمدية“ كذلك في المسائل الدينية الإسلامية. وثالثا ما يسمى بالخطاب (discourse) وهو تجميع لمختلف الأرآء والنظرات غير الملزمة في مختلف القضايا الدينية من منظور إسلامي بحيث يمكن استخدامه لاتخاذ القرارات الشرعية متى دعت إليه الحاجة.

بــ _ الفلسفة الماعونية كأساس للتضمين المالي ومكافحة الفقر

أظن أن خير مدخل للنظر إلى قضية التضمين المالي ومكافحة الفقر في منظور جمعية ”محمدية“ هو ما يعرف بشكل واسع لدى أعضاء هذه الجمعية بفلسفة “الماعون”، وهي الفلسفة، أو على الأقل، النظرة التي تأخذ أصولها من سورة الماعون في القرآن الكريم. وهذه السورة تعلمنا وجوب وصل الصلاح الفردي بالصلاح الاجتماعي بشكل وثيق وبين التقوى الشخصية داخل القلب والانخراط الخارجي الواقعي في الحياة الاجتماعية لتحقيق رفاهية الجميع وتجسيد مصالح الجماعة. فالأخلاق الإسلامية التي أدب القرآن عليها المؤمنين هي أخلاق الانخراط وأخلاق الأعمال الصالحات، وليست أخلاق الابتعاد والإعراض عن الحياة الدنيوية، فهذا العالم ليس شيئا ملعونا في نفسه ومنبودا عن رحمة الله وإنما هو هبة ونعمة من خالقه بحيث يجب تعميره والمحافظة عليه. لقد أنكرت سورة الماعون وشددت النكير على من يؤدون العبادات المحضة ويهملون واجباتهم الاجتماعية ويضنون بالمعين الذي أنعم عليه الله سبحانه وتعالى على المُقصين اقتصاديا وماليا. فقال عز وجل ((فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون والذين هم يراؤون ويمنعون الماعون)). فحسب هذه السورة ليس للعبادات التي يقوم بها شخص أي معنى ديني صادق وقيمة روحية حقيقية إذا لم تتحول إلى وتتجسد في صورة أعمال واقعية لتحقيق الرفاهية والمصالح المشتركة. كان هذا هو الروح الذي حرك الدوافع النفسية الداخلية لأحمد دحلان عندما أنشأ منظمة ”محمدية“ في بداية القرن الماضي، وههنا كان يكمن السر في سرعة انتشارها وقدرتها على البقاء بشكل متطور وفي ازدهار مستمر إلى الآن بعد أن اجتازت من عمرها ما يزيد على قرن.

انطلاقا من هذه الفلسفة الماعونية فكانت أولى خطوة عمد أحمد دحلان إليها هي إصلاح التعليم عن طريق المنظمة التي أسسها، وذلك لأن القدر الكافي من التعليم يمكّن كل شخص من التوصل إلى مستوى حياة أفضل وإلى مصادر اقتصادية أوسع، فانخفاض مستوى التعليم مساو ومرادف لانخفاض مستوى الدخل. ومما لا يختلف فيه الاثنان أن معظم المقصين اقتصاديا وماليا هم أصحاب درجة التعليم المنخفضة.

وحتى الآن ما زال مجال التعليم يشكل أحد مجالات العمل والنشاط الهامة في جمعية ”محمدية“ وكانت مساهمات هذه الجمعية في هذا الميدان كبيرة. وهذا يلاحظ في عدد ما تتبع لها من معاهد تعليمية عليا بحيث يبلغ عددها 170 ، وهذا إلى جانب الألوف المؤلفة من المعاهد التعليمية الابتدائية والثانوية. لانبالغ إذا قلنا إن التعليم في رحاب منظمة ”محمدية“ يزدهر ويتطور بشكل مستمر. إلا أن السؤال الهام حول نظام التعليم المحمدي الحالي ينتظر الإجابة وهو إلى أي مدى تسيِّر هذه الجمعية في الوقت الحاضر نظاما تعليميا تضمينيا (inclusive education) يحتوي على مختلف شرائح المجتمع خصوصا الطائفة المقصاة منهم بسبب الفقر أو العته أو غير ذلك. فهل روح فلسفة الماعون ما زال يغذي عملية تسيير التعليم في هذه الجمعية؟ لا أعتقد أنني ذو صلاحية لأن أجيب عن هذا السؤال الهام، بل مجلس التعليم العالي ومجلس التعليم الابتدائي والثانوي لهذه الجمعية هما اللذان يجب عليهما إحارة الجواب عنه.

والخطوة الثانية التي اتخذها أحمد دحلان انطلاقا من الفلسفة الماعونية هي تجديد فهم الدين الإسلامي وإصلاح مؤسساته. وقد تأثر في أفكاره التجديدية بحركة الإصلاح والتجديد التي قام بها محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا بمصر. وكان من المصادر التي قرأها كتاب رسالة التوحيد وتفسير جزء عم والإسلام والنصرانية كلها للإمام محمد عبده، ومجلة العروة الوثقى ومجلة المنار إلى غيرها من المصادر المتاحة في زمنه. والفهم الديني الإسلامي الذي يقدمه هو الفهم الذي يؤكد دور الدين كعامل التغيير الاجتماعي بمعنى أن الدين ليس مجرد صلاح ديني شخصي ولكن أيضا صلاح اجتماعي يتمثل في الانخراط المباشر لتنمية المجتمع استهداء بالدين، وهذا هو التدين الصحيح حسب رأي هذا البطل القومي. وبالنسبة للمؤسسات الدينية الإسلامية أصلح الشيخ نظام توزيع الزكاة المتبع في عصره بحيث وزع المزكي زكاته مباشرة إلى من رآه مستحقا لها من جيرانه أو أقربائه الفقراء، وكان ممن وزعت لهم الزكاة شيخ أو رجل دين محلي رغم غناه وكفايته المالية، وذلك بناء، حسب رأي الناس في ذلك الزمن، على مكانته الدينية ومركزه الاجتماعي مما يوجب صرف جزء من أموال الزكاة إليه. فغير أحمد دحلان هذه العادة وأوجب توزيعها عن طريق لجنة مخصصة لذلك الغرض وذلك لضمان عدالة توزيهعا وتوصيلها إلى مستحقيها الحقيقيين.

تقديم الخدمات الاجتماعية لتمكين الضعفاء والمنبوذين كاليتامى والأطفال المهملين هو المجال الذي حظي باهتمام أحمد دحلان، فأعد البرامج لرعايتهم وتوفير التعليم والمساعدات المالية لهم. وفي الوقت اللاحق اتخذت جمعية ”محمدية“ طريقين لتفعيل النشاطات في هذه الناحية، أولهما بناء دور خاصة لإرواء هؤلاء الأطفال مع توفير كل ما يحتاجون إليه وإعطاء فرصة التعليم الكافية لهم ويكثر منهم من تخرج في الجامعة، والطريق الثاني إدماجهم لدى العائلات المسلمة المستعدة لقبولهم ومعاملتهم على أنهم جزء من أعضاء عائلتهم، ومن مزايا هذه الطريقة أن الأطفال يستطيعون أن يعيشوا في جو عائلي طبيعي كغيرهم من الأطفال. ومع مرور الزمن وسعت “محمدية“ من مجال خدماتها الاجتماعية بحيث تعد وتنفذ برامج تمكين المجتمع وأنشأت مجلسا (قسما) خاصا لهذا الغرض يسمى مجلس تمكين المجتمع بحيث يقوم أعضاؤه بتقديم المشورة والنصح والتوجيه للفلاحين والصيادين وشرائح المجتمع الأخرى الضعيفة. بالنسبة لصغار التجار خلقت برامج لتعزيزهم وتزويدهم بالمعلومات اللازمة للتوصل إلى رؤوس الأموال التي هم في أمس الحاجة إليها. والمسؤول عن تنفيذ هذه البرامج الأخيرة هو مجلس الاقتصاد. كما أنشأت جمعية ”محمدية“ مصارف تمويل الشعب الإسلامية والمؤسسات المالية الصغيرة الحجم والمعروفة في إندونيسيا ببيوت المال والتمويل وذلك لفتح فرص أوسع يمكن من خلالها لمجتمع الطبقة الدنيا التوصل إلى المصادر المتعلقة برؤوس الأموال.

النساء يشكلن شريحة في المجتمع تعاني من الإقصاء المالي والاقتصادي أكثر مما يعاني منه الرجال. ففي العالم الثالث بما في ذلك دول العالم الإسلامي تتوقف معظم النساء اقتصاديا على الرجال زوجا أو أبا أو أخا. والنظرة السائدة لدى جل المسلمين أن الرجل هو المسؤول عن نفقة العائلة والزوجة ما هي إلا ربة البيت، فلذلك يجب عليها لزوم بيتها. هذا إلى حد ما نوعٌ من الاقصاء الاجتماعي الذي ينتهي بالمرأة إلى الاقصاء الاقتصادي والمالي. فبما أنها لا تعمل ولا تدر مالا فلا يمكنها أن تملك الحسابات المصرفية ولا الفرصة للتوصل إلى التسهيلات التي تقدمها المؤسسات المالية.

أولت ”محمدية“ النساء اهتماما بالغا منذ المراحل الأولى من تطورها، فأنشأ أحمد دحلان عام 1917 منظمة نسائية محمدية تسمي ”عائشية“ وقد تطورت هذه المنظمة بشكل مواز لتطور ”محمدية“ نفسها، وتمثل منظمة مستقلة تحت المظلة الكبيرة لجمعية ”محمدية“. ومجلس الترجيح، كقسم مسؤول في ”محمدية“ عن التنقيب والبحث في التعاليم الإسلامية، قد أصدر عدة قرارات وفتاوى لتعزيز دور المرأة، ومن ذلك قرار الترجيح لسنة 1976 بشأن ”أدب المرأة في الإسلام“، حيث جاء فيه أن ”المرأة خلقها الله لتشارك الرجل في العمل والجهاد من أجل تنمية المجتمع وحفظ العالم وتعميره.“ وفيه أيضا ”أن المرأة يجب عليها أن تشارك وتجاهد وتأخذ دورا مباشرا في الممارسة السياسية عن طريق الانخراط في الهيئات التشريعية والنيابية المحلية والمركزية للحصول على التمثيل الكافي.“ كما أن فيه ”جواز تولي المرأة المناصب العامة كمنصب القاضي والوزير أو غيرهما.“

من الملاحظ أن فلسفة الماعون في ”محمدية“ قد لعبت دورا هاما في تحريك التغير الاجتماعي ودفع عجلة التجديد الديني اللذين سيَّرتهما ”محمدية“.

جـ – فلسفة الماعون ومكافحة الفقر

لا نبالغ إذا قلنا إن الفقر ظاهرة اجتماعية أبدية وقديمة قدم وجود البشر على وجه الأرض وإنه حالة غير مرضية يجب معالجتها والتقليل من تأثيرها السلبي على الفرد والمجتمع. ذكر علماء الإسلام أن للفقر آثارا سيئة على عقيدة ومثل وأخلاق وسلوكيات وفكر وثقافة الفرد والأسرة والمجتمع والدولة. بل وقد روي عن النبي صلة الله عليه وسلم قوله (كاد الفقر أن يكون كفرا).

والمناهج الممكن اتباعها لمعالجة الفقر من بين الاحتمالات والخيارات المتعددة تتلخص فيما يلي:

1- تصحيح الرؤية الكونية

الرؤية الكونية وتسمى أيضا برؤية العالم هي مجموعة من المعتقدات والنظرات الكونية المتناسقة حول الكون والإنسان بل وحول الوجود بصورة عامة، وتمثل الإطار الذي يقوم من خلاله كل فرد برؤية وتفسير للعالم المحيط به وتفاعل معه ومع مكوناته، ويعتبر النظام العقائدي والأصولي لكل دين هو رؤيته الكونية. وهذه الرؤية الكونية هامة في توجيه الإنسان في سلوكه وأفعاله وموقفه من العالم حوله. انطلاقا من هذا نجد في المجتمع صنوفا من الناس يمكن أن توصف نظرتهم إلى العالم، من وجهة النظر التقدمية، بأنها نظرة سلبية تعتبره على أنه شر لا خير فيه ويجب لذلك الابتعاد عنه والامتناع عن المشاركة فيه إلا بقدر ما يكفي لإمساك الحياة على الإنسان. كما أن هناك نظرة تشاؤمية ترى الحياة كلها على وجه الأرض محكومة بقضاء الله فيجب على الإنسان قبولها على ما هي عليه ولا جدوى لمحاولة تغييرها بما في ذلك الفقر لأنه لا راد لقضاء الله وما على الإنسان إلا قبولها والرضا بها والصبر على بلائها. وتعتبر هذه النظرة سلبية لأنها لا يمكن أن تساعد الجهود لمكافحة الفقر.

هذه النظرة لا تلائم نظرة الإسلام الصحيحة والتي تعلم أن هذا العالم ليس شرا بل هو خير وهبة من الله يجب استعماره والاعتناء به من أجل تحقيق حياة أفضل للإنسان على وجه الأرض. وأقصى ما يحذر عنه الإسلام هو أن لا يلهي هذا العالم الإنسان عن ذكر الله. وقد قال الله سبحانه وتعالى (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) [البقرة: 29]، وصاغ الفقهاء على أساس هذه الآية قاعدة فقهية تقول “الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم”. وهذا موقف إيجابي ومنفتح من العالم والحياة الإنسانية فيه.

ومما علمه الإسلام أن قضاء الله ليس كله مبرما، منه ما هو معلق، يتوقف على ما بذله الإنسان من جهود لتغيير وتحسين حياته بما في ذلك حالة الفقر التي يعاني منها. وهذه نظرة تفاؤلية يساندها قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 11]. يجب تنمية روح الثقافة (ethos) والوعي الذاتي في كل فرد أن قدر نصيبه من الدنيا يتوقف على نفسه هو وعلى مدى ما يبذله من جهود. ومن المرجو أن امتلاك هذه الرؤية من شأنه أن يكون دافعا داخليا لدى كل فرد لإحداث التغير في حياته.
2- تنمية رأس المال البشري

رغم وعينا بأن مشكلة الفقر مشكلة معقدة وبنيوية، إلا أن دور الفرد في معالجته أمر لا يجوز إهماله. ومن أسباب الفقر انخفاض مستوى التعليم وقلة المهارة. فمجرد إسباغ التسهيلات التمويلية والقرضية على الفقير لن يجدي كثيرا ما لم تُقَفّ هذه العملية بالرفع من مستوى المهارة في استغلال هذه التسهيلات، ومما يجب الحذر منه احتمال أن يكون إعطاء هذه التسهيلات لمن ليس لديه مهارة لاستغلاله تدليلا له بدلا من مساعدته. وعلى كل حال تنمية رأس المال البشري أمر مهم القيام بها كوسيلة لمعالجة الفقر.

3- ترشيد استخدام المصادر المالية الاجتماعية الإسلامية

استخدام الثروة في الإسلام يقوم على أساس نظرية العدالة الإسلامية، وهي في الحقيقة نظرية العدالة التوزيعية، إلا أنها ليست نظرية العدالة التوزيعية التقليدية بل يمكن أن يوصف بأنها تظرية العدالة التوزيعية المعدلة لأن الإسلام أدخل التعديل على هذه النظرية. تقوم نظرية العدالة التوزيعية التقليدية على مبدأ “التوزيع بقدر المساهمة”، فمن عظمت مساهماته في خلق الثروة عظم ما يستحقه من توزيع، وبالعكس من قلت مساهماته قل حقه في التوزيع، ومعنى ذلك أن من لا يستطيع تقديم أية مساهمة لسبب من الأسباب الخارجة عن إرادته لا حظ له من التوزيع. السؤال الذي يواجه هذه النظرية هو كيف يعالج نصيب أولئك الذين هم غير محظوظين كالمعتوهين والمرضى مرضا مزمنا يمنعهم من العمل وكثير من أشباههم؟ وهذا يعتبر من مساوئ نظرية العدالة التوزيعية التقليدية.
لا شك أن النظرية الإسلامية هي نظرية عدالة توزيعية في أصلها وذلك لورود عدة آيات في القرآن الكريم تشير إلى ذلك، منها قوله سبحانه وتعالى (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة: 286]، وقوله (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) [النجم: 39]، وقوله (كل نفس بما كسبت رهينة) [المدثر: 38]. دلت هذه الآيات كلها بوضوح على أن نظرية العدالة الإسلامية توزيعية. إلا أن الإسلام لا يقف عند هذا الحد، بل عدل هذه النظرية وعالج بشكل كاف مشكلة هؤلاء المحتاجين عن طريقين:
1) عن طريق فرض تخصيص قدر من أموال الأغنياء لخلق الموارد المالية الاجتماعية في صورة زكاة أو إنفاق واجب ، وقال الله سبحانه وتعالى (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) [الذاريات: 19]، أو الحض على الإنفاق والتصدق المندوبين إلى جانب الزكاة والإنفاقات الواجبة. وذلك كله لمعالجة نصيب أولئك غير المحظوظين.
2) عن طريق توسيع آفاق رؤية المسلم الكونية أن الحياة لا تقتصر على الحياة الحالية على وجه الأرض بل هناك حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيوية، وهذا الإيمان يعطي دافعا نفسيا داخليا لحض المؤمن على الاستعداد للتضحية بجزء من أمواله لمساعدة الآخرين.

على المؤسسات الاجتماعية الإسلامية ترشيد استغلال هذه الموارد المالية الإسلامية وأن تخلق الثقة لدى الأغنياء بصحة توجيه هذه الموارد. الاستغلال غير الرشيد من شأنه أن يقلل الثقة لدى الموسرين وبالتالي يقلل رغبتهم في الإنفاق.

4- تفعيل التعاون بين المؤسسات المالية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى

لا يمكن للمؤسسات المالية (الإسلامية) أن تقدم أداء كاملا في عملية التضمين المالي ومكافحة الفقر بمفردها دون وجود تعاون جيد مع المؤسسات الاجتماعية الأخرى. فنجاح مؤسسة مالية إسلامية ما لا يحتمه مدى جودة تطبيق حوكمة شركتها فحسب بل يتوقف على جودة تقاليد وثقافة المجتمع، فالمؤسسات المالية الإسلامية خصوصا الصغير الحجم منها، لكي تقدر على رفع مستوى المعيشة في المجتمع الذي تعمل فيه، يحتاج إلى وجود محيط يسود فيه قدر من الوعي المالي الإسلامي. فعملية تثقيف المجتمع وتنمية الوعي المالي الإسلامي فيه دور يمكن أن تقوم به المؤسسات الاجتماعية الدعوية غير المالية. وهذه الأخيرة تقوم بدور بناء وتصحيح الرؤية الكونية عند أفراد المجتمع وتنمية رأس المال البشري والاجتماعي وخلق جو يمكّن الأولى من تفعيل أدائه في تحقيق التضمين المالي ومعالجة الفقر.

ومن الملاحظ أن دور المؤسسات الاجتماعية الدعوية الإسلامية غير المالية لا يقتصر على دور غير مباشر كما ذكرنا أعلاه فحسب، ولكنها تستطيع أيضا أن تقدم تعاونا مباشرا ملموسا. هذا ما رأيناه في حالة “محمدية“. فتعاون مصارف تمويل الشعب الإسلامية (وهي المصارف الصغيرة الحجم) التي تديرها فروع محلية معينة لجمعية “محمدية“ مع هذه الفروع مفيد إلى حد بعيد في توسيع أسواقها وضمان التسهيلات المالية التي تقدمها للجماعة.

د – الملاحظات الأخيرة

1- إمكانية تنفيذ عملية التضمين المالي ومعالجة الفقر بشكل أكثر فعالية تتأتى عن طريق بناء الرؤى الكونية الصحيحة لدى المجتمع وخصوصا الرؤية التفاؤلية التي من شأنها أن تشكل عاملا نفسيا داخليا يدفع كل أحد إلى أن يتخذ موقفا إجابي تجاه حياته، ففي حالة “محمدية“ فأن تنمية أخلاق الماعون قد استطاعت دفع هذه الجمعية إلى تسيير العمل الاجتماعي الكبير المتمثل في ضخامة البرامج والنشاطات التي تقوم بها.
2- ترشيد استغلال الموارد الاجتماعية الإسلامية من شأنها أن تخلق الثقة الأعمق لدى أصحاب الموارد وبالتالي تدفع رغبة أقوى في المشاركة في تنمية رفاهية المجتمع والقضاء على الفقر.
3- التعاون بين المؤسسات الاجتماعية الإسلامية والمؤسسات المالية الإسلامية أمر يجب الاهتمام به لأن هذه الخيرة لا يمنكها أن تعمل وحدها في تفعيل عملية التضمين المالي دون تأييد من الأولى كما مر بيانه.

Related Articles

Tinggalkan Balasan

Alamat email Anda tidak akan dipublikasikan. Ruas yang wajib ditandai *

Back to top button